فتح مكة.. الفتح المبين
أراد الله أن يتم نوره ويعلي كلمته فجاء فتح مكة، وكان السبب في التعجيل بفتح مكة أن قريشا نقضت ما تعهدت به في صلح الحديبية مع رسول الله، فنصرت قبيلة بكر الموالية لها على قبيلة خزاعة الموالية للرسول, وكان الفتح أعظم انتصارات المسلمين وإيذانا بغروب شمس الكفر والشرك في شبه الجزيرة العربية فكيف تم الفتح, وكيف كان استعداد المسلمين لفتح مكة؟
المكان: مكة المكرمة
الموضوع: الرسول يقود المسلمين لفتح مكة إيذانًا بسقوط دولة الكفر.
الأحداث:
إن الفتح المبين الذين أعز الله به جند الإسلام ورد لهم اعتبارهم ورفع به كرامتهم ورءوسهم حتى بلغت عنان السماء فتوجتها، إنه الفتح الأعظم الذي قصم به الله دولة الكفر وأزال به شعائر الشرك ومعالم الطغيان، وأشرقت وجه الأرض مرة أخرى بالتوحيد والتحميد، إنه الفتح العظيم ليس للأرض فقط إنما هو فتح القلوب لدين الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجًا..
ولم يكن أشد الناس تفاؤلاً واستبشارًا بأن هؤلاء النفر المستضعفين بقيادة الرسول الذين خرجوا مستخفين من عدوهم فارين بدينهم تاركين ديارهم وأهليهم والدنيا بأسرها وراء ظهورهم خائفين مترقبين, هم هم الذين يعودون بعد ثماني سنوات بجيش كبير وإيمان أكبر لفتح البلد التي أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً يظن أن الرسول سيعيد بناء الأمة ويكوّن دولة من مجموعة من الفارين المهاجرين بدينهم تستطيع أن تفتح معقل الكفر وعاصمة الشرك وبؤرة الإرهاب الوثني للمسلمين طيلة عشرين سنة, ولعل ما جرى يكون عبرة وعظة لأصحاب المناظير السوداء الذين لا يرون أبدًا وجه الشمس في أي عمل إسلامي ودعوي ويحكمون عليه بالفشل لا لشيء إلا لانتعاش الباطل في عيونهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
سبب الغزوة:
لم يكن يدور في خلد عمر بن الخطاب الفوائد الجمة التي سيجنيها المسلمون والدعوة الإسلامية من صلح الحديبية, لذلك فلقد حزن منها في بادئ الأمر واعترض وتسخط حتى نزل القرآن يصف الصلح بأنه فتح مبين وحقًّا كان هو؛ لأنه كان السبب المباشر لفتح مكة! لأن من بنوده أن من أحب أن يدخل في حلف الرسول دخل ومن أراد أن يدخل في حلف مكة وقريش دخل فدخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخلت بنو بكر في حلف قريش وكان بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة أيام الجاهلية، وفي شهر شعبان 8هـ اعتدت بنو بكر على خزاعة وأعانت قريش بني بكر على ذلك بالسلاح والرجال، وعد ذلك خرقًا لبنود المعاهدة والصلح؛ لأن الاعتداء على الحليف بمثابة اعتداء على من يحالفه, وهذا الاعتداء يعتبر مباشرة على الرسول والمسلمين, خاصة أن الإسلام قد فشا وانتشر في خزاعة وقتل في هذا الاعتداء رجال من المسلمين، ولما وصلت الأخبار بذلك للرسول قرر رد العدوان وأخذ القرار الكبير بالسير لفتح مكة، وكان رسول الله قبل أن يأتيه الخبر قد تجهز للجهاد ولا أحد يعلم وجهته حتى أزواجه أمهات المؤمنين.
سفير قريش:
كان أبو سفيان بن حرب من أعقل أهل قريش وأشدهم ذكاء أدرك أن ما فعلته بنو بكر والمتهورون من شباب قريش يعد بمثابة نقض للميثاق وبنود الصلح فخاف من غائلة ذلك وعاقبته فخرج مسرعًا للرسول يطلب منه تجديد الصلح وقد أخبرهم الرسول بمجيئه، فدخل أبو سفيان المدينة ونزل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة فأراد أن يجلس على فراش الرسول فأبت أم حبيبة وقالت له: "أنت رجل مشرك نجس"، وحاول أبو سفيان تجديد الصلح، ولكن الرسول لم يرد عليه شيئًا فحاول الاستشفاع بأصحاب النبي فلم يستطع أحد منهم أن يجير على رسول الله, فقام أبو سفيان فآجر نفسه بين الناس عملاً بنصيحة علي بن أبي طالب, فلم يقم أحد لإجارته وتيقن العزم على فتح مكة.
الاستعداد للغزوة:
أمر الرسول الناس بالتجهيز للغزو وصرّح لهم بما يريده، ولكنه وللمفاجأة دعا ربه جل وعلا أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش حتى يباغتوها في ديارهم، وزيادة في الإخفاء والتمويه بعث الرسول بسرية في 1 رمضان 8هـ في اتجاه آخر ليظن الناس أنه متوجه لها.
حادثة حاطب بن أبي بلتعة:
أثناء الاستعداء للغزوة كتب حاطب بن أبي بلتعة وكان من المهاجرين الأولين ومن أهل بدر في لحظة من لحظات الضعف الإنساني التي تؤكد على بشرية الصحابة وعدم عصمتهم برسالة لأهل مكة يخبرهم بالأمر وذلك مع امرأة مستأجرة لذلك، فأطلع جبريل الرسول على ما حدث استجابة لدعوة الرسول بأخذ العيون عن قريش، فأرسل الرسول عليًّا والمقداد فأحضرا المرأة واستخرجوا الكتاب منها، ثم دار هذا الحوار بين حاطب والرسول، فقال له الرسول : "ما هذا يا حاطب؟" فقال حاطب: "لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت, ولكني كنت امرأ ملصقًا في قريش لست من أنفسهم ولي فيهم أهل وعشيرة، وولد وليس فيهم قرابة يحمونهم، وكل من معك لهم قرابات يحمونهم فأحببت إذ فاقني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي"، فقال عمر بن الخطاب: "دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق", فقال الرسول: "إنه قد شهد بدرًا وما يدريك يا عمر, لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"؛ فبكى عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
خروج الجيش الفاتح:
بعد أن أتم الرسول إعداد الجيش وجاءته القبائل العربية المسلمة من كل حدب وصوب خرج الجيش الفاتح في 10 رمضان 8هـ من المدينة إلى مكة واستخلف الرسول في المدينة أبا رهم الغفاري الملقب بالمنحور، وفي الجحفة لقيه العباس بن عبد المطلب مهاجرًا بعياله وماله فكان بذلك آخر المهاجرين كما إن أبا سلمة هو أول المهاجرين.
كانت هذه المسيرة في رمضان؛ لذلك فإن الرسول قد أمر الجيش بالفطر ليكون أقوى لهم على القتال، ثم أمر كل جندي في الجيش أن يوقد نارًا ليلقوا الرعب في قلب قريش فأوقدوا عشرة آلاف نار، ووصلوا حتى منطقة مر الظهران وقريش لا تعلم شيئًا عنهم.
كان العباس أرحم الناس بأهل قريش فخرج ليلاً يلتمس بعض أهل قريش يخبرهم بالجيش حتى يخرجوا للرسول يستأمنون عنده، وبالفعل يقابل العباس أبا سفيان ويخبره بقدوم الجيش فدخل أبو سفيان مع العباس إلى معسكر المسلمين ليطلب الأمان من الرسول ويراه عمر بن الخطاب فيتربص وراءه ليقتله ولكن العباس يجيره عند رسول الله فيكف عمر عنه، ويقف أبو سفيان بين يدي رسول الله ويعرض عليه الرسول الإسلام فيتلكأ أبو سفيان ويتردد ثم يشهد شهادة الحق، فقال العباس: "يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا"، قال الرسول : "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن".
أثناء تحرك الجيش أمر الرسول بشن حرب نفسية على أبي سفيان ليحدث له هزيمة نفسية ورعب ينقله أبو سفيان لأهل قريش فتخور قوتهم وتسقط مقاومتهم للمسلمين، وهذه الهزيمة النفسية حدثت لأبي سفيان عندما حبسه العباس عند مضيق وادي مر الظهران ليرى مرور كتائب الجيش الإسلامي فأذهله ما رآه من كثافة الجيش وقوته، ودخله الرعب الشديد، فقال للعباس: "والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا", فقال العباس: "يا أبا سفيان إنها النبوة", فقال أبو سفيان: "فنعم إذن".
كانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة المشهور بحماسته وغيرته الشديدة، فلما رأى أبا سفيان قال له: "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة, اليوم أذل الله قريشًا"، فاشتكى أبو سفيان للنبي ما قال سعد, فنزع الرسول اللواء من سعد وأعطاه لولده قيس.
دخول مكة:
دخل أبو سفيان مكة مسرعًا وصرخ بأعلى صوته: "يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن", فسبته زوجته هند، ولكن الناس عرفوا الجد من كلام أبي سفيان فهرعوا مسرعين لبيوتهم والمسجد الحرام.
رفض بعض المتهورين من شباب قريش وسفهائها إلقاء السلاح وأصروا على مقاومة الجيش المسلم واجتمعوا عند منطقة الخندمة لقتال المسلمين وجعلوا عليهم عكرمة بن أبي جهل.
وزع الرسول جيشه على قسمين الميمنة وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وغيرهم، وجعل عليهم خالد بن الوليد، وأمرهم أن يدخلوا مكة من أسفلها على أن يتولوا القضاء على أي جيب من جيوب المقاومة، والميسرة وعليها الزبير بن العوام ومعه راية الرسول ويدخل مكة من أعلاها، والمشاة وعليهم أبو عبيدة بن الجراح.
دخل الرسول مكة على راحلته وهو يضع رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل المسجد الحرام، ومن حوله المهاجرون والأنصار فاستقبل الحجر الأسود، وطاف بالبيت وفي يده قوس يطغى به الأصنام الموجودة بالحرم ليحطمها وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا"، ودخل الكعبة وطهرها مما كان بها من الصور ثم صلى فيها ركعتين.
العفو النبوي:
بعد أن صلى الرسول داخل الكعبة فتح بابها ثم أخذ بعضادتي الباب وخطب فيهم ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: "خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم"، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم, اذهبوا فأنتم الطلقاء".
لم يمنع العفو العام الذي أصدره الرسول قراره بإهدار دماء رجال من أكابر المجرمين الذين كانت عداوتهم وشرورهم أكبر من غيرهم منهم عكرمة بن أبي جهل وعبد العزى بن خطل ومقيس بن صبابة وغيرهم, بلغ عددهم تسعة نفر ستة رجال وثلاثة نساء، ولكن الرسول عفا عن بعضهم.
أثناء طواف النبي بالكعبة جاء رجل من قريش اسمه فضالة بن عمير وكان جريئًا وأراد أن يغتال النبي وهو في الطواف، ولكن الله أطلع رسوله على الأمر, فنادى الرسول على فضالة وأخبره بما في نفسه فأسلم فضالة من فوره.
خاف الأنصار من بقاء الرسول بمكة وقالوا: "أترون رسول الله إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها", فلما علم الرسول قال لهم: "معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم".
كان هذا الفتح من أعظم انتصارات المسلمين وبشارة عظمى بقيام دولة الإسلام في أقوى صورها وإيذانًا بغروب شمس الكفر والشرك في شبه الجزيرة العربية والعالم من بعدها.